تفسير سورة البقرة
{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
صرح في هذه الآية بأن هذا القرءان {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، ويفهم من مفهوم الآية ـــ أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب ـــ أن غير المتقين ليس هذا القرءان هدى لهم، وصرح بهذا المفهوم في آيات أخر كقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} وقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا} وقوله تعالى?: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}.
ومعلوم أن المراد بالهدى في هذه الآية الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق إلى دين الحق، لا الهدى العام، الذي هو إيضاح الحق.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} عبر في هذه الآية الكريمة "بمن" التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه اللَّه بعض ماله لا كله. ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه. ولكنه بيَّن في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه: هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها، وذلك كقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور.
ومنه قوله تعالى?: {حَتَّى عَفَواْ}، أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم.
وقال بعض العلماء: العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع. ومنه قول الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وهذا القول راجح إلى ما ذكرنا، وبقية الأقوال ضعيفة.
وقوله تعالى?: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، فنهاه عن البخل بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}. ونهاه عن الإسراف بقوله: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، فيتعين الوسط بين الأمرين. كما بينه بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير، وبين البخل والاقتصاد. فالجود: غير التبذير، والاقتصاد: غير البخل. فالمنع في محل الإعطاء مذموم. وقد نهى اللَّه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضًا وقد نهى اللَّه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:
{وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}. وقد قال الشاعر: لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت ** يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فإنها فلتات من وساوسه ** يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
وقد بين تعالى? في مواضع أخر: أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك، إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي اللَّه. كقوله تعالى?: {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، وصرح بأن الإنفاق فيما لا يرضي اللَّه حسرة على صاحبه في قوله: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}، وقد قال الشاعر: إن الصنيعة لا تعد صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
فإن قيل: هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد على الحاجة الضرورية، مع أن اللَّه تعالى? أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا، وذلك في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فالظاهر في الجواب ــ واللَّه تعالى? أعلم ــ هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعًا. وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة. كنفقة الزوجات ونحوها فتبرع بالإنفاق في غير واجب وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم: "وابدأ بمن تعول"، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم، فلا يجوز له ذلك، وإلايثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقًا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال.
وأما على القول بأن قوله تعالى?: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} يعني به الزكاة. فالأمر واضح، والعلم عند اللَّه تعالى?.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
لا يخفى أن الواو في قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} محتملة في الحرفين أن تكون عاطفة على ما قبلها، وأن تكون استئنافية. ولم يبين ذلك هنا، ولكن بين في موضع آخر أن قوله {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} معطوف على قوله {عَلَى قُلُوبِهمْ}، وأن قوله {وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ} استئناف، والجار والمجرور خبر المبتدأ الذي هو {غِشَاوَةٌ} وسوغ الابتداء بالنكرة فيه اعتمادها على الجار والمجرور قبلها. ولذلك يجب تقديم هذا الخبر، لأنه هو الذي سوغ الابتداء بالمبتدأ كما عقده في (الخلاصة) بقوله: ونحو عندي درهم ولي وطر ** ملتزم فيه تقدم الخبر
فتحصل أن الختم على القلوب والأسماع، وأن الغشاوة على الأبصار. وذلك في قوله تعالى?: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}، والختم: الاستيثاق من الشىء حتى لا يخرج منه داخل فيه ولا يدخل فيه خارج عنه، والغشاوة: الغطاء على العين يمنعها من الرؤية. ومنه قول الح?رث بن خالد بن العاص:
هويتك إذ عيني عليها غشاوة ** فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
وعلى قراءة من نصب غشاوة فهي منصوبة بفعل محذوف أي {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}، كما في سورة "الجاثية"، وهو كقوله: علفتها تبنًا وماءًا باردًا ** حتى شتت همالة عيناها
وقول الآخر: ورأيت زوجك في الوغى متقلدًا سيفًا ورمحا
وقول الآخر: إذا ما الغانيات برزن يومًا ** وزجّجن الحواجب والعيونا
كما هو معروف في النحو، وأجاز بعضهم كونه معطوفًا على محل المجرور، فإن قيل: قد يكون الطبع على الأبصار أيضًا. كما في قوله تعالى? في سورة النحل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
فالجواب: أن الطبع على الأبصار المذكور في آية النحل: هو الغشاوة المذكورة في سورة البقرة والجاثية، والعلم عند اللَّه تعالى?.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ}
وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِ?للَّهِ وَبِ?لْيَوْمِ ?لأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ لم يذكر هنا بيانًا عن هؤلاء المنافقين، وصرح بذكر بعضهم بقوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}.
{اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ}
?للَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ لم يبين هنا شيئًا من استهزائه بهم. وذكر بعضه في سورة الحديد في قوله: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}.
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ ظاهر هذه الآية أن المنافقين متصفون بالصمم، والبكم، والعمى. ولكنه تعالى? بيّن في موضع آخر أن معنى صممهم، وبكمهم، وعماهم، هو عدم انتفاعهم بأسماعهم، وقلوبهم، وأبصارهم وذلك في قوله جلّ وعلا: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}. وقوله تعالى?:
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ}.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ?لسَّمَآءِ الصيِّب: المطر، وقد ضرب اللَّه في هذه الآية مثلاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم بالمطر؛ لأن بالعلم والهدى حياة الأرواح، كما أن بالمطر حياة الأجسام.
وأشار إلى وجه ضرب هذا المثل بقوله جلّ وعلا: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذا المثل المشار إليه في الآيتين في حديث أبي موسى المتفق عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا. فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا منها، وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تُنْبتُ كلأً. فذلك مثل من فقه في دين اللَّه ونفعه اللَّه بما بعثني به، فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى اللَّه الذي أرسلت به ".
{فيه ظلمات} ضرب اللَّه تعالى? في هذه الآية الْمثل لما يعتري الكفار والمنافقين من الشبه والشكوك في القرءان، بظلمات المطر المضروب مثلاً للقرءان، وبيّن بعض المواضع التي هي كالظلمة عليهم لأنها تزيدهم عمى في آيات أخر لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}؛ لأن نسخ القبلة يظن بسببه ضعاف اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس على يقين من أمره حيث يستقبل يومًا جهة، ويومًا آخر جهة أخرى، كما قال تعالى?: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}.
وصرح تعالى? بأن نسخ القبلة كبير على غير من هداه اللَّه وقوّى يقينه، بقوله: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، وكقوله تعالى?: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا}، لأن ما رآه ليلة الإسراء والمعراج من الغرائب والعجائب كان سببًا لاعتقاد الكفار أنه صلى الله عليه وسلم كاذب؛ لزعمهم أن هذا الذي أخبر به لا يمكن وقوعه. فهو سبب لزيادة الضالين ضلالاً. وكذلك الشجرة الملعونة في القرءان التي هي شجرة الزقوم. فهي سبب أيضًا لزيادة ضلال الضالين منهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ}، قالوا: ظهر كذبه؛ لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في أصل النار؟
وكقوله تعالى?: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله تعالى?: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}.
قال بعض رجال قريش: هذا عدد قليل فنحن قادرون على قتلهم، واحتلال الجنة بالقوة؛ لقلة القائمين على النار التي يزعم محمّد صلى الله عليه وسلم أنّا سندخلها.
واللَّه تعالى? إنما يفعل ذلك اختبارًا وابتلاءً،
وله الحكمة البالغة في ذلك كله سبحانه وتعالى? عما يقولون علوًّا كبيرًا. {ورعد} ضرب اللَّه المثل بالرعد لما في القرءان من الزواجر التي تقرع الآذان وتزعج القلوب. وذكر بعضًا منها في آيات أخر كقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً}، وكقوله: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}، وكقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
وقد ثبت في صحيح البخاري في تفسير سورة الطور من حديث جبير بن مطعم رضي اللَّه عنه أنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقرأ في المغرب بالطور. فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ــ إلى قوله ــ {الْمُصَيْطِرُونَ}، كاد قلبي أن يطير. إلى غير ذلك من قوارع القرءان وزواجره، التي خوفت المنافقين حتى قال اللَّه تعالى? فيهم: {مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ}، والآية التي نحن بصددها، وإن كانت في المنافقين. فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. {وَبَرْقٌ} ضرب تعالى? المثل بالبرق؛ لما في القرءان من نور الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة.
وقد صرح بأن القرءان نور يكشف اللَّه به ظلمات الجهل والشك والشرك. كما تكشف بالنور الحسي ظلمات الدجى كقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}، وقوله: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}، وقوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
{واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ}، قال بعض العلماء: {مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ}: أي مهلكهم، ويشهد لهذا القول قوله تعالى?: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ}، أي تهلكوا عن آخركم. وقيل: تغلبوا. والمعنى متقارب؛ لأن الهالك لا يهلك حتى يحاط به من جميع الجوانب، ولم يبق له منفذ للسلامة ينفذ منه. وكذلك المغلوب، ومنه قول الشاعر: أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا بما قد رأوا مالوا جميعًا إلى السلم